«على مفترق الطريق»  قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس

الكاتب الهادي نصيرة
الكاتب الهادي نصيرة

تزوجت سوار في سِنّ مبكرة، قبل أن تُتِمَّ دراستها، لكن فرحتها لم تدم طويلا، إذ أثبتت كل التحاليل الطبية حقيقة عقمها وعدم قدرتها على الإنجاب. فانتهى بها الأمر إلى الطلاق، والانفصال عن زوجها، الذي أجبره والداهُ على اتّخاذ هكذا قرار كان وقعه صادما على زوجته الشابة ليُحطّم كل أملِ لها في أن تستقرّ وتسعدَ في قادم أيّامها.

 

هكذا شاءت الأقدار أن تعود سوار إلى منزل والديها، يعتصرها الألم، مستاءةَ جدا من تجربة زواجِ قاسية، لم تنل منها غير المرارة والخذلان .. عادت من حيث أتت، إلى نقطة البداية، منطلق عهدها بالحياة..  فسختْ من ذهنها أي محاولة في التفكير مجددا بالزواج مهما كانت الأسباب.. وما لبثت أن انشغلت بمساعدة أمها على الاهتمام بشؤون المنزل والعناية بإخوتها الذين مازالوا يواصلون دراستهم ..

 

مات أبوها في حادث سير، ولم يمُرَّ عام على رحيله، حتى وافى الأجلُ والدتها إثر أزمة صحية حادة.. كَبُر أخوها هيثم وتزوّج، فاضطُرّت للعيش معه.. وبحكم عمل الأخ وزوجته، ومغادرتهما المنزلَ منذ الصباح الباكر، والعودة مساء، باتت سوار بمثابة الخادمة، تقضي يومها بين ترتيب الغرف، وإعداد الأكل، وتنظيف الأواني والثياب، ومرافقة الأطفال، عند خروجهم إلى المدرسة والعودة منها.. تسرّبت سنوات العمر مسرعة، وبدأت سوار تستقبل أحفاد أخيها، تَحمِلُهم كدأبها حملَ من سبقهم في ما مضى من الأعوام، لتعبُر بهم ما بقي من محطّات حياتها..بلغت العقد السادس، وأدركت أن أحلام السعادة التي راودتها في صباها، قد تلاشى بريقها، وأمست سرابا..  صار جسمها المتعب هضيما ضامرا، ورمت بها قسوة الأيام على ضفاف الخيبة، والانكسار..

عاشت سوار طوال حياتها كالجسر المتمدد، الذي باتت تعبره الأجيال، دون أن يمنحها الدهر فرصة للراحة والفرح والابتهاج.. لا أحد باستطاعته إدراك معنى أن يعيش إنسان على قارعة الإقصاء، يتجرع الحرمان طيلة أربعين عاما.. لا أحد من أولئك المحيطين بسوار أحس، يوما، بأنها إنسانة، جديرة بأن تكون، هي أيضا، في الشارع والمدرسة، ولم تخلق لأن تظل داخل البيوت، لا تبرحها أبدا،  لتكون منظفة، وطاهية، ومربية أطفال، معظم الوقت..الكل، من حولها،  يسعى إلى تحقيق أحلامه، ومآربه في إتمام الدراسة للحصول على وظيفة ، بينما باتت هي، في وضع أقرب إلى الاغتراب ، عن العالم المحيط بها، والذي بدا لها مليئا بالثرثرة، والغرور والأنانية، والنفاق، والحب الكاذب..

 والأسوأ من ذلك، سلوك أولئك الصبيان، الذين تربوا على يديها حتى كبروا.. لقد صاروا ينظرون إليها وكأنها قطعة أثرية قديمة، ويسخرون منها لأنها لا تدلي برأيها فيما يخوضون فيه من المسائل السياسية والفلسفية، والثقافية..

تغيرت الدنيا من حولها، وأتى عليها يوم جيء فيه، للمنزل،  بطباخ، ومنظفة، فلم يبق لها، يومئذ،  سوى الابتعاد عن مملكتها الصغيرة، التي أمضت في خدمتها عقودا من الزمن، لتنزوي بجوار النافذة، غارقة في نفق عزلتها، تجتر أيامها المملة، وتفكر في صمت..

لم تدم حيرتها في وضعها طويلا، فقد تواردت في مخيلتها أفكار كثيرة، وتساءلت: " أيعقل أن أبقى هكذا ؟!"..

وقفت على الطريق بانتظار الحافلة ..أخرجت النقود، وإذا بورقة صغيرة كتب عليها رقم هاتف، واسم صديقة لعائلة الزوج.. تذكرت بأنها مديرة لمؤسسة لرعاية الأيتام.. فما لبث أن تهلل وجهها فرحا، وهي تقول : "يا الله !  كم أنا محظوظة ! "